•   info@saudiusa.com
الابتعاث.. حياة
( 0 Votes ) 
31 آذار 2018

الابتعاث.. حياة

قضيتُ، ما يُقارب السبع سنوات، مُغتربًا وقد مضى اليوم على عودتي زمن. ما زلت أتباهى بهذه التجربة العظيمة، ولا أُبالغ إن قُلت أني مدينٌ لهذه السنين التي أعادت تكويني فكأني ولدتُ من جديد.
ما زلتُ أذكر جيدًا كل ما مرّ بي منذ لحظة البداية، بدءًا من تفاصيل الحياة الجديدة مُرورًا بدهاليز الجامعات التي التحقتُ بها، انتهاءً بكل تلك العلاقات التي بُنيت مع الأيام.. مع أصدقاءٍ من مختلف بِقاع هذه الأرض، جمعتنا غرفة محاضرات واحدة، جلسات استراحة عابرة، وجبة غداء بسيطة أو نُزهة ربيع حالمة.
 ما زالت تلك الليالي الباردة الصعبة تقبع في الذاكرة، حيث كنتُ وحيدًا مع مخاوفي وأحلامي، نشارك الليل آهاته وآماله.. تعثّر ومشقة.. تيهٌ وبصيص نور يأتي مع كل فجر، ليُربت على قلبي ويُلهمني الأمل.
كانت الثقة تتعزز في قلبي مع كل انتصار.. وكنت أُمني النفس بأني أتعلم في كل يوم أمرًا جديدًا وهذا ما كان يُبهرني.. فكان الدرس الأول: لقد تعرفت أخيرًا على نفسي.
ما زالت ابتسامة من التقيتهم منقوشة في القلب، رغم الاختلاف الكبير في الكثير من أمورنا، لكن الحواجز سقطت وأحببنا بعضنا.. اكتشفتُ حينها أن لكل شعب خصوصيته ولكل ثقافة رونقها.. ولكل قلب مذاقه الذي يتباهى به ويفتخر.. وأنه من المحال أن نلغي الآخر أو أن نصبح جميعًا نسخة واحدة متشابهة.. عرفتُ أن أجمل ما في هذا الوجود، تلك الإنسانية التي تجمعنا ولا تفرقنا.. وأن سمو الأخلاق هو العملة الوحيدة الرائجة في تعاملاتنا الإنسانية.. عملة لا تعترف بالحدود ولا تُقر بالأجناس والأعراق!
الغربة صقلت فيّ الكثير.. علمتني مبادئ لم تغب عني إلى اليوم: ثقتك بنفسك تصنع منك فارسًا لا يمِلّ ولا يكِلّ من سبر أغوار الدروب، إدارة الوقت تُسلمك رقبة المستحيل قربانًا فتذبحه بلا رحمة، تفهمّك للآخر من متع الحياة التي يجب أن نتقنها ونُمارسها بلا استحياء.
أُولى محاولاتي المجنونة في كل شيء بدأت في الغربة. إقدامي على إصدار أول كتبي بجرأة تدهشني إلى اليوم، أولى مغامراتي في عالم ريادة الأعمال في بيئة عمل تنافسية لا ترحم.. قراري بتعلّم أشياء مختلفة وتغيير نمط حياتي برمتها. احترافي للعبة السكواش، إنقاصي لربع وزني تقريبًا.. قراءاتي النهمة، حيث قرأت كما لم أقرأ من قبل.. أصبحت مكتبتي الشخصية كنزًا حقيقيًا. تعلمت أن في التجربة الأولى ليس هناك ما نخسره، وأن كل ما علينا فعله هو أن نبدأ.. فبدأت.
أيقنتُ أن الغربة كانت تجربة ثرية رممت الإنسان الذي بداخلي فعرفت قيمة ذاتي واحترمت نفسي.. ومن ثمّ احترمت وقدّرت من حولي.
لذا، أندهش كثيرًا ممن يُصر أننا يجب أن نوقف الابتعاث ونستعيض بالابتعاث الداخلي كبديل، كي نوفر الموارد أو لأي سبب آخر!! الحقيقة أن الابتعاث ليس مقاعد دراسية وشهادة فاخرة نعود بها من الخارج لنُعلقها على الجدران في تباهٍ وكبر.. الابتعاث تجربة عميقة بكل تفاصيلها. جهادٌ جميل. نضالٌ عظيم. تجربة ثرية تعيد تشكيل ملامحنا من جديد، تُقوينا، تفتح أعيننا على ما كُنا نجهله. وتجعلنا نتقبل ما كُنّا ننكره، تزيد من وعينا ومعرفتنا فندرك معنى الاختلاف وأننا لسنا وحدنا في هذا العالم الكبير.
في الابتعاث مليون فائدة أولاها ذلك الزخم المعرفي الثقافي الكبير، الذي يُنير بصيرتنا، يزيد من اصرارنا، يقوي سواعدنا، فنعود ونحن ملؤنا العزم على أن نجعل من وطننا جنة.
الابتعاث علم ومعرفة وتربية ونضوج.. فقط لمن أراد ذلك، ولا أسوأ على الإطلاق من وجوهٍ خاوية عادت كما ذهبت. يبقى القرار بيديك، فإن لم تفتح الباب على مصراعيه لتعرف أكثر.. سترجع كما رحلت.. لا شيء يُذكر.
لكل هؤلاء المناضلين المغتربين أهمس في أذنهم: على كتفك حِملٌ كبير. فكن على قدر هذه التجربة. عُد وأنت أقوى. نضوجك بذرة يجب أن تزرعها في تربة الوطن الغالية. علمًا وخبرة..
الابتعاث ألف حياة.. فلا تضيع الفرصة.
دمتم ودام الوطن بألف خير،،،

قسم التحرير

محتوى هذه المقالة لا تمثل رأي صفحة سعوديون في أمريكا او فريق عملها وانما تمثل رأي كاتبها

- Twitter - Facebook
قسم التحرير

موعد نزول الرواتب

تم ايداع المخصصات

تسجيل الدخول