•   info@saudiusa.com
التنقيب عن الذهب في الغربة !!
( 0 Votes ) 
11 أيلول 2014

التنقيب عن الذهب في الغربة !!

سعوديون في أمريكا - عاصم الربدي

إليهمسطور أقدمها بين يدي جنّتي في هذه الحياة والديّ الكريمين [ خالد, حصة ] الذين بذلا كلّ ما في وسْعهما من أجلي , وإلى أشقاءِ روحي , ورفقاءِ دربي ؛ لعِلمي أنّ شَخصي يُمثّل شيئاً في قلوبهم , ورحيلي إلى هُناك آلمهم حيث الفراق والبُعد , وأسعدهم في ذاتِ الوقت لأن نجاحي نجاحهم وتميّزي تميُزهم , فوقفوا معي وقفةَ وفاء بالدعاءِ والتواصل والاطمئنان , أعلمُ مدى حِرصهم على معرفةِ كلَّ جديدٍ عنّي , وماذا تعلمت واكتسبت , وإلى زملائي المبتعثين وكل

مغترب قد ترك أهله ودياره , وإلى كل شخص ينشد تغيير ذاته واهتماماته من الأسوأ إلى الأفضل أضَع بين أيْديهم هذه السطور لأشاركهم رحلتي مع التغيير , ولأسمع رجع الصدى , كي نقفز سويّاً إلى الأمام أكثر فأكثر .

 

     حسْبي أنَّ عُمر الإنسانِ الحقيقيّ هو عُمره الإنتاجي , وحجمه المعرفي والثقافي , ومكانته على خارطة المجتمع وما قدم للأمة , وليس عدد السنوات التي قضاها في هذه الحياة ! وها أنا أسعى لزيادة عُمري الحقيقي , وتلك السطور هي قصتي في رحلة (التنقيب عن الذهب في الغربة) !

أدَعُكُمْ مَعَها …                       

*   *   *

قرارٌ وإصرار

     كنتُ جالساً مع أصدقائي في أحدِ المنْتزهات في السعوديةِ بعد عودتي من بعثةٍ قصيرةٍ لتعلّم اللغةِ الانجليزيْة دامتْ ثلاثةَ أشهر في المملكةِ المتحدة “بريطانيا” , بيْنما كنّا نتسامر سألني أحدهم عن سبب اختياري للدّراسة في الخارج , وبعد صمتٍ حائرٍ أجبتُ بجوابٍ مثاليٍّ وقلتُ له: لكي أساهمَ في رفعة أمتي الإسلامية ووطني ! وهلّم جرّا , عندما انصرفنا بدأ السؤال يدور في بالي كثيراً ، وبدأت أفكر حقاً في الإجابة الحقيقية والواقعية خالية من أيّ مثاليات ؛ بعد تفكير طويل اكتشفت أن قراري باختيار الابتعاث الخارجي كان مبنياً على جهلٍ , تفكيرُ مراهقٍ لا تفكير شخص ناضج .

     قرار دراسة مرحلة البكالوريوس في خارج المملكة اُتّخذ بعد عودتي من تلك البعثة القصيرة في بريطانيا , والتي كانت بعد انتهائي من دراسة السنة الأولى من المرحلة الثانوية , بعد انتهاء البعثة سريعاً طلبت من والدي أن تكون دراسة مرحلة البكالوريوس بعد انتهاء المرحلة الثانوية في خارج المملكة , اتّخذت هذا القرار بناءً على إعجابي بالحضارة الغربية أثناء ذهابي إلى بريطانيا , حيث كانت تجربة أسلوب حياة جديدة بعيداً عن أي ارتباط بالعادات والتقاليد المملة والمعقدة ، وعن أي ارتباطات اجتماعية أو أسرية , هذا ما كنت أفكر فيه في ذلك الوقت ، وعلى هذا التفكير الساذج السطحي اتخذت قراري في إكمال دراستي بالخارج , في بداية الأمر القرار لم يكن مرحباً به من قِبل العائلة لعدة أسباب ، ولكن بعد إصرارٍ مني تم قبوله على مضضٍ و تخوفٍ من قِبل الوالدين , لكن دوافع اتخاذ قرار الدراسة في الخارج تغيّرت لاحقاً .. فماذا جرى ؟!

*   *   *

محطة الوصول

     وصلتُ بحمد الله إلى مدينة دنفر التابعة لولاية كولورادو في الولايات المتحدة الأمريكية في تاريخ 24/11/2011 م . لم أواجه أي صدمة حضارية , بل تكيّفت سريعاً مع طبيعة البلد , وأعتقد أن ذلك راجع لتجربتي السابقة في الدراسة في الخارج , لكن المشكلة التي واجهتني هي اختيار الأصدقاء ، حيث أتاني شغف التعرّف على أيِّ أحد ، وأعني بـ [ أي أحد ] أي لا أهتم بصلاحه واستقامته بقدر اهتمامي بأنسه وصحبته , أيضاً فالمكان بالنسبة لي جديدٌ ولا أعرف عنه أي شيء ، فكنت أبحث عن أصدقاء لأتعرّف من خلالهم على المكان ، فاخترت لي صحبة لفترة قليلة , لم أحرص وقتها على اختيارها وانتقائها بعناية , ولم أكن أفكر بتأثيرها عليّ إلا عندما أحسست لاحقاً أنني بدأت بالتغير للأسوأ , فبدأت أتساهل في صلاتي وبعض واجباتي الدينية , حينئذٍ أيقنت بصحة المقولة الشهيرة (الصاحب ساحب) , بل أتى هذا النص النبوي شاخصاً أمامي (‏المرء على دين خليله فلينظر المرء من يخالل‏) , وبفضل الله تداركت نفسي سريعاً وتركت صحبتهم , لم أتركهم قطيعة كاملة إنما كنت ألقي عليهم سلام الإسلام إذا قابلتهم , ولكني تركت صحبتي لهم وجلوسي معهم لفترة طويلة فقط , وكل هذا بتوفيق الله لي أولاً ثم دعاء الوالدين , اكتشافي بأنني كنت في الطريق الخطأ كان أول خطوة لي تجاه (التغيير) , وعلى رأس الأمور التي تغيرت فيها هو “الجانب الفكري والثقافي” وتغيّر “اهتماماتي” من الأسوأ إلى الأفضل , ومن سقيمٍ إلى سليم ، ومن مراهقٍ إلى ناضج .

*   *   *

 

في عنفوان المراهقة

     قبل أن أشرح أسباب التغيير أريد أن أعطي صورة عن اهتماماتي قبل الابتعاث , كان معظم تفكيري هو كيف أستمتع بيومي؟ وكنت أعمل جاهداً لحل هذا السؤال , فقد كنت -باختصار – أعيش يومي بلا هدف وبدون أيّ تخطيطٍ للمستقبل , وكنت أيضاً مهتماً بلفت أنظار الناس عبر أي وسيلة , فعلى سبيل المثال : كنت مهتماً اهتماماً بالغاً بتزيين سيارتي حيث كان لا يمر شهرٌ أو شهرين إلا وقد عدّلت فيها شيئاً , وكنت أدفع المبالغ الطائلة لتزيينها بشكل جاذب للانتباه ، كانت تلك مهمتي فقط لفترة تقارب السنتين , أيضاً كان لحضور تجمعات التفحيط شيئاً من اهتماماتي قبل الابتعاث ، حتى وصل بي الحال أحياناً إلى أن أسافر إلى مدينة أخرى لأحضر وأشاهد مثل هذه التجمعات ؛ هذه لمحة من أبرز اهتماماتي قبل الابتعاث .

     قد يقول قائل أن انحطاط الاهتمامات في فترة المراهقة شيءٌ طبيعي , وأعتقد أنها نظرية خاطئة ، بل أيقنت أنها خاطئة بعد مقابلة صديق لي اسمه عبدالمجيد , فقد كان عبدالمجيد بمثل سنّي -لايفرق بيننا سوى أشهر قليلة – لكنه كان أكبر مني عقلاً وثقافةً وإدراكاً بسنوات عديدة ؛ وبما أن عبدالمجيد كان أحد أسباب التغيير الذي طرأ علي , فقصة تعرّفي عليه تستحق أن تذكر .

*   *   *

صداقة من رحم الصدفة

     بعدما تركتُ أغلب أصدقائي السابقين ، كنتُ أجلس لوحدي في تلك الفترة القصيرة ، وكنت أبحث عن سكنٍ جديدٍ غير سكن العائلة التي كنت أسكن لديها بسبب بُعدها عن المعهد , اتصلت على أحد أقاربي في السعودية -وكان قد درس في مدينة دنفر سابقاً -، شاورته عن انتقالي لسكن آخر فأشار عليّ بالسكن الطلابي التابع للجامعة لما فيه من مخالطة للمتحدثين الأصليين للغة الانجليزية , ولقربه من المعهد أيضاً كونه داخل الحرم الجامعي , لذا قدمت على سكن الجامعة واستلمت مفتاح غرفتي وكانت بالدور السادس , بعدها بعدة أيام بينما كنت خارجاً من المعهد قاصداً أحد المطاعم لأتناول الغداء , كنت أسير لوحدي وإذ بشخصٍ يمرُّ بجانبي ويعطيني نظرة ثم أتبعها بسلام , ثم أكمل طريقه نحو الأمام ، بعدها بثوانٍ التفت إليّ وقال : “وين رايح”؟ قلت:”رايح أتغدى” ، قال لي: ( أجل تعال نتغدى سوى ) ، كان شخصاً تبدو على وجهه مظاهر الصلاح والالتزام , أعجبتني الفكرة ؛ قلت له: (قدام) , قضينا فترة الغداء سوياً تحدّثنا حينها عن أمور كثيرة , استرسلنا في الحديث حتى علمت أنه يسكن في نفس عمارتي ولكن بالدور الخامس , فرحتُ جداً حين علمت بذلك , امتدت تلك العلاقة وكثر خروجنا وجلوسنا معاً ، تمسكنا ببعضنا كأصدقاء ، إلى يومنا هذا ونحن معاً وسنبقى إلى الأبد .

*   *   *

نعم .. أتغيّر

     بعدما تعرفت على عبدالمجيد أكثر , بدأت في كل يومٍ أكتشف منه جوانباً مشرقةً كانتْ بعيدةً كلَّ البعدِ عنّي ، أعدتُ النظر في نفسي لأنه كان في مثل عمري ولكنه كان يحمل من الثقافة والنضج مالا أحمله , فقد ضيّعت وقتي في السابق في تزيين سيارتي , وهو قد استغل وقته في قراءة الكُتب ؛ ضيّعت وقتي في ملاحقة مواكب التفحيط وهو كان وقتها يحضر الدورات العلمية .

     بعد فترة من صحبتي لعبدالمجيد ، أيْقنت أنه لابد من أن أبدأ في تطوير ذاتي وتوسيع مداركي , برفع مستواي العلمي والثقافي حتى أتمكّن من محاورته فضلاً عن مجاراته من غير إحساس بالنقص أو شعورٍ بضحالةِ الثقافة , فأوّل قرارٍ اتخذته كخطوة سريعة نحو التغيير الفعلي هو ( قراءة الكتب ) , وأعتقدُ أنني بتوفيق الله أحسنت اختيار تلك الخطوة ، فقد فَتحت لي القراءة باباً على عالم آخر لم أكتشفه في السابق , بدأتُ بقراءةِ كتبِ “تطوير الذات” , ثم نوّعت في الكتب المقروؤة ؛ استعنتُ كثيراً بصديقي عبدالمجيد في اختيارِ الكتب , وكانت أيضاً خطوة موفقة , فالاستعانة بصاحب الخبرة تختصر لك الطريق دائماً.

*   *   *

أصدقائي في الغربة

     أحدى مزايا الابتعاث أن المبتعث يُجبرُ على التعرّفِ على أناسٍ آخرين من بيئاتٍ مختلفة , وقد وفقني الله بصحبة تعينني على الخير , والتمسّك بقيمي ومبادئي الإسلامية , وعلى عدم الانحراف عن جادة الصواب رغم الفتن الكثيرة التي تُسهل لك الوقوع فيها , والتي لولا الله ثم دعاء والديّ الكريمين ورفقائي الصالحين هناك لوقعت فيها , فالصحبةُ مهمّة جداً ، خاصةً في فترة المراهقة ، وأعتقد أنه في معادلةِ الأصدقاء “الكيف أهم من الكم” , فالأصدقاء القلّة الصالحون خير من أصدقاءَ كُثر فيهم الغثُّ والسمين , وبحمد الله فأصدقائي الآن قلّة في بلد الابتعاث لكنّهم ملأوا عيني وأثروا حياتي لما في قلوبهم من تقوى الله وحسن النصيحة , وما تحمله نفوسهم من خلق رائع وصدقٍ في المحبة .

*   *   *

غَربلةٌ شامِلة

     لم يكن “التغير” الوحيد الذي حصل لي هو (اهتمامي بالقراءة) فقط ، بل تبعه تغيرات أخرى على شخصيتي واهتماماتي فمن أهم الأمور التي تغيرت فيها أنه زاد اهتمامي بأحوال أمتي الإسلامية , فقد أحسست أنني عضو في هذه الأمة , وأن لها حقاً علي بأن أضعها ضمن أولويات اهتماماتي , وكان ذلك أحد دوافعي لإكمال الدراسة كي أساهم في رفعتها قدر استطاعتي من خلال التخصص الذي أنا فيه , ومن خلال ثقافتي ومعرفتي بأحوال أمتي ومعرفة تاريخها المجيد , ومستقبلها المأمول , ومن خلال ما أملك من وسائل قد تكون سبباً من أسباب تطورها , وإن كنّا متأخرين كثيراً ، ولكن نفعل الأسباب كما أمر الله ونجتهد ونجاهد أنفسنا والتوفيق والسداد بيد الله عز وجل , ولقد أخبرنا القرآن الكريم أن الله تعالى طلب من مريم أن تباشر الأسباب وهي في أشد حالات ضعفها ، قال تعالى: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا} .

     ومن أسباب ” التغيير ” الذي طرأ علي هو النظر في أحوال أمتي أكثر وأكثر لأنني عندما عِشت في أمريكا رأيت تطورها في كافة المجالات العلمي والتقني والحضاري الذي أغلبه من صنعها ، وبما أني من دولة عربية فأنا أعلم أن معظم التطور الحاصل في بلادي ليس من صنعنا , مما جعلني أعيد النظر في أحوال أمتي الإسلامية والعربية وأن أكون سبباً في عُلوها وازدهارها في المستقبل إن شاء الله .

*   *   *

الجانب المظلم

     كما أن للقمر جانب مضيءٌ فله أيضاً جانب آخر مظلم , فرغم إعجابي ببعض المظاهر والحضارة والتطور في أمريكا , إلا أنه من خلال حياتي في الغربة تعلمتُ أنّ الله تعالى أنعمَ عليّ أن جعلني أتربى في بيتٍ مسلم , وتحت ظل دولة إسلامية ، المجتمع فيها مترابط و متلاحم عملاً بما حثَّ عليه ديننا الحنيف , ففي أمريكا عادةً حق الآباء على الأبناء شبه مفقود , حيث أنه من الطبيعي جداً أن ترى الأب والأم لديهم أبناء ولكن لايجتمعون بهم إلا قليلاً , بل إنه كثيراً لا يلتقون بهم أساساً , فضلاً عن أداء حقوق أخرى واجبة للوالدين ؛ ولا أنسى على سبيل المثال عندما كنت أسكن في بداية بعثتي في بيت تسكنه امرأة عجوز لوحدها ، ولمّا سألتها عن أبنائها قالت لي: ” الكل عايش حياته وإذا وجدوا وقت فراغ زاروني ” ، كانت تقول ذلك دون حسرة ولا ندم مما يدل أنه أمر طبيعي , بعدها أيقنت حقاً أن الأسرة في الغرب لا قيمة لها عكس قيمتها في المجتمع الإسلامي وهذا جعلني حقاً أفكر بعظم هذا الدين وقدرته على إنقاذ العالم من الانحطاط والتفكك الاجتماعي إلى مجتمعٍ مترابطٍ متراحم , كالبنيانِ يشدُّ بعضهُ بعضاً , خلاصة القول أن هذه التجربة جعلت الاهتمام بأمر أمتي أحد اهتماماتي بعدما كانت اهتماماتي لا تتعدى تزيين سيارتي !

*   *   *

بين نظامين دراسيين

     التغيرات التي حصلت لي لم تكن فقط محصورة في الجانب الفكري ، فالجانب التعليمي حظي أيضاً على بعض التغيرات الإيجابية , فقبل الابتعاث كنت موقناً بأهمية الدراسة والتفوّق , لكن سهولة “المدرسة والمدرسين” كانت سبباً رئيساً في عدم الحرص على الاجتهاد حيث أنه في النهاية لايوجد أحد راسب ؛ فكل الطلاب “ناجحون” ! , فمن هذا المنطلق لم أكن مجتهداً في فترة دراستي بالثانوية العامة في المملكة العربية السعودية لعدم وجود الدافع لذلك , وبالنهاية تخرجت بتقدير امتياز ! .

     الأمر تغير في فترة دراستي بالخارج كون النظام التعليمي الأمريكي لايوجد في قاموسه “الكل ناجح” حيث أن نظامهم باختصار “اعمل تنجح العب ترسب!” , أيضاً فالبيئة التعليمية هناك تحثّك على الاجتهاد بحيث ترى الأغلبية مجتهدة وتدرس وتعملُ جاهدةً للتفوق , كما أن النظام التعليمي يُساعد الطالب على الاجتهاد حيث أن هناك واجبات يومية تساعد الطالب على فهم المادة و الدرس إذا قام بأدائها بنفسه ، وهذه الواجبات اليومية قد تؤثر على النجاح أو الرسوب لما تمثله من نسبة عالية من الدرجة النهائية , أيضاً فغالبية المدرسين يعملون بإخلاص , أنا هنا لا أمتدح النظام التعليمي الأمريكي حباً في أمريكا ، لكني أمتدحه لأنه يعتبر تجربة تعليمية ناجحة , وأرغب أن أرى مثلها في بلادي الإسلامية (وفق ضوابط الشريعة الإسلامية) , فنحن أهل العلم ونحن أحق به , فكل هذه العوامل الموجودة في محيطي الدراسي في الغربة ساعدتني وأجبرتني على الاجتهاد والعمل الجاد للحصول على أعلى الدرجات بعون الله تعالى .

*   *   *

لولا تثبيطهم

     البيئة التعليمية ليست السبب الوحيد في “تغيري” في مجال التعليم بعد الابتعاث ولكن نظرية “إثبات العكس” أحد أهم الأسباب التي أوجدت دوافع الاجتهاد والتغير في نفسي حتى يومي هذا , وأقصد بنظرية “إثبات العكس” هو إثبات عكس ما يراه الناس عنّي , بما أن اهتماماتي كانت سقيمة قبل الابتعاث ، فأغلب المقربين مني إن لم يكن كلهم كان متوقعاً مني الفشل في تجربتي والعودة إلى الوطن سريعاً ، وزاد الطين بلّة لما علموا أنني قدّمت على تخصص ضمن مجال “الهندسة” , ولا أنسى بعض المواقف التي رسخت في ذهني حتى اليوم , بل باتت تلك المواقف تتمثل أمامي دائماً عند كل موقف فيه تحدي , وعند حصول أي عوائق تقف أمامي , فأجعل من تلك المواقف دافعاً لي للمضي قدماً , ولإثبات النفس .

     المواقف أحدها كان من أحد أصدقائي في المرحلة الثانوية , حيث كنّا جالسين في الاستراحة نتسامر سوياً ونقضي الوقت بأحد ألعاب “سوني” , وقد كان وقتها متبقياً على رحلتي للدراسة في أمريكا أقل من شهر ، فسألني ساخراً: ” وش تخصصك اللي بتدرسه هناك؟ ” ، قلت له: “هندسة ” ، فضحك ضحكة ساخرة جداً وقال : أجل هندسة ! وأعاد نفس الضحكة ومرّ الموقف عليه ولم يأبه به , لكنه بالنسبة لي أحدث بركاناً في قلبي , فقد كان أحد المواقف التي هزّت وجداني لما فيه من الاحتقار الذي تعرضت له .

     الموقف الآخر كان من أحد أصدقائي في الحلقة القرآنية قبل رحلتي بأسابيع ولم يكن بعيداً عن الموقف السابق , حيث قدم إليّ صديقي في المنزل ليناولني غرضاً قديماً لي وليودعني بعدها , بينما كنا نتكلم أمام باب المنزل سألني عن الدراسة في الخارج و عن تخصصي ، بعدما قلت له عن تخصصي ضحك وقال: ” كل عمرك تفحط بالأهليات والآن رايح لأمريكا تدرس هندسة! ” , وللعلم : (فقد كنت أدرس فصل دراسي في مدرسة أهلية لسهولة الدراسة فيها , والفصل الثاني في مدرسة حكومية لقربها من بيتنا وكنت أفعل هذا لمدة سنتين) ، فقد كان يقصد أنني كنت أتنقل من مدرسة لأخرى لكي أرفع معدلي الدراسي فكيف أدرس هندسة في الخارج ! , طبعاً كان لهذا الكلام وقع كوقع الرصاص على قلبي ، بعدما انصرف وودعني فتحت هاتفي النقّال وكتبت كلامه بالنص في الملاحظات , وكتبت أيضاً ما قاله صديقي الأول .

     بعد هذين الموقفين أحسست أنني مستحقرٌّ ممن حولي ، كنتُ أحاولُ أن أثبتَ العكس لكلِّ هؤلاء الذين توقعوا مني الفشل , وأصبح شغلي الشاغل كيف أنقذ نفسي من مستنقع الفشل الذي رمتني فيه نظرات الناس من حولي .

     ولازلت أكن لهؤلاء الأصدقاء كل التقدير والمحبة , ولازالت صداقتي بهم متينة وأعتز بها , بل سأبقى مديناً لهم بالفضل لأنهم كانوا سبباً في بث روح التغيير في قلبي , ودافعاً كبيراً للاجتهاد والتفوق .

*   *   *

غِراسٌ قديم

     لا أغفل أن حلقتي القرآنية التي قضيت فيها سنوات عديدة خلال المرحلة المتوسطة والثانوية كان لها دورٌ في توجيه اهتماماتي , فبعض القِيم والآداب التي اكتسبتها خلال دراستي في الحلقة لا تزال عالقة في القلب ؛ وكان لها تأثير على ذاتي ولا شك , ولكني وقتها كنت أتصارع مع ذاتي ومع رغباتي ونفسي الأمارة بالسوء , فتنجذب كثيراً إلى ما تهواه بالإضافة إلى بعض أصدقائي خارج الحلقة حيث كان لهم بعض الدور في انحراف اهتماماتي , ولا شك أيضاً أن الحلقة قد بذرت في قلبي غِراساً , قد لايكون قد ظهر أثره عليّ وقتها واضحاً , لكني متيقن أن جزءاً من سبب تغيري أثناء الابتعاث هو ذلك الغرس الذي بُذر في قلبي أثناء دراستي في الحلقة , وقد يُؤتي البذر أُكله سريعاً , وقد يؤتي أُكله بعد حين , فقد وضعت الحلقة في قلبي أرضاً خصْبةً قابلة للعطاء مهيأةً للنبتِ والنموِ والازدهار .

     وهنا أسجل تحية إعجاب وتقدير لتلك الحلقة ومنسوبيها جميعاً فقد قضيت معهم سنوات عديدة ؛ ستبقى ذكرى جميلة , وتاريخاً لا يمحوه الزمن , وسأبقى مديناً لهم بالفضل أبداً ما حييت .

*   *   *

سلاحٌ ذو حدّين

     نستطيع القول في خلاصة الأمر أن الابتعاث حقاً هو ( سلاح ذو حدين ) متى استخدم بطريقة خاطئة فقد يودي بصاحبه إلى نهاية مؤسفة , فهو يحمل من السلبيات الكثير ، لكن بحمد الله تجربتي ليست كذلك , فللابتعاث فضل عليّ بعد الله في تغيّر شخصيتي للأفضل , وهذا الفضل لله أولاً ثم لاختيار الصحبة الصالحة , والدراسة في نظام دراسي صارم وفعّال , تغيري ولله الحمد حصل من تغيّر بيئتي , والابتعاث يعتبر نوع من تغيير البيئة ، والمقصد هنا أن تطوير الذات قد لايتمكن منه الإنسان داخل بيئته التي يعيش فيها , فالتغيّير إلى الأفضل قد يتطلب أحياناً تغيير المكان والبيئة المجاورة لك , لكن الابتعاث ليس السبب الوحيد لحصول التغيير ، فهنالك أسباب أخرى ربما تناسب شخص ولا تناسب آخر , المهم أن يتغير الإنسان إلى الأفضل تحت أي وسيلة ممكنة , وللمبتعثين أقول: أنت في فرصة قد لاتتكرر مستقبلاً , وهي فرصة للتغيير من الذات , فلتستغل تلك الغربة , ولتنّقب عن الذهب الموجود فيها , وتترك الشوائب العالقة عليها , اجعل الغربة نقطة بداية لشخصية أفضل وأجمل ، ولا تجعلها باباً لفسادٍ يضرّ دينك ودنياك لبُعد الرقيب , فالله شهيدٌ عليك أينما كنت {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ } , فاستفد من فرصة ابتعاثك وتغيّر بيئتك لتطوير ذاتك وسموّ نفسك , ولا تجعلها سبباً لانتكاستك , أو بقائك كما كنت .

*   *   *

ختاماً .. في نهاية هذه السطور أقدم شكري وتقديري لكم على اطلاعكم ويسرني جداً نقدكم وملاحظاتكم ..

كما لا أنسى أن أقدم كلمات الشكر والتقدير للأستاذ جابر الغفيص على جهده في المراجعة والتدقيق، وأشكر الزميل عبدالمجيد الغليقة على دعمه المعنوي ووقفته معي منذ البداية ، والشكر أيضا لكل من نقد المحتوى فمنكم اتعلم وأستفيد. 

 

موعد نزول الرواتب

تم ايداع المخصصات

تسجيل الدخول