•   info@saudiusa.com
ذنب أرضي و حسرات جوية
( 10 Votes ) 
14 تشرين1 2015

ذنب أرضي و حسرات جوية

نواف سمحان 

 


في الطائرة المغادرة من واشنطن إلى جدة، كان خالد من ركابها القلائل الذين لم تنتابهم موجة الهلع العارمة أثناء عبورها عاصفة ممطرة زلزلت بمطباتها الهوائية هيكل الطائرة كما هزت قلوب ركابها. لقد صبت العاصفة بلمع برقها و دوي رعدها العذاب بألوانه على رؤسهم.لم يكن ضجيج صراخ الأطفال و لا حتى هزيم الرعد بأعلى من صوت تفكيره المشغول بتلك الفاجعة. نعم أرعبه تخبط الطائرة و إختلاط نحيب النساء بصلوات الرجال، لكنه لم يستطع أن يأخذ حيز يذكر من تفكيره المشغول بتفاصيل ذلك اللقاء.

 

بدى له هذا الموضوع كالكابوس في ذهنه بل أشد. و إن كان أغلب متكبدي الكوابيس يُدركون عاجلا أم آجلا وجودهم في هذه الاحلام و يستشعرون بُطلانها فهو لم يزل يعلم حقيقة وضعه و يتجرع مرارة واقعه. إنه يتذكر و الحالم لا يتذكر. إنه يشعر بحقيقة الزمان و المكان و الحالم لا يشعر بهما. لقد عجز عن نسيان الواقعة أو حتى عن إيقاف التفكير فيها، و رغم مرور أكثر من إسبوعين على الحادثة ما زال يذكرها و كأنها البارحة. ناداه أستاذه بإسمه فور إيذانه للطلبة بالإنصراف
 

- أهلا دكتور ماكنزي.
مرحبا بك يا خالد. هل لديك بعض من الوقت؟ أريد محادثتك في مكتبي الشخصي. -
تصلبت الملامح في وجهه و جف الريق عن حنجرته و ببحة في الصوت رد:
-طبعا


لم يزد خالد على هذه الكلمة خوفاً من أن يستشف أستاذه توتره في صوته. أراد أن يظهر بمظهر الواثق من نفسه و لكن خيبت هيئته ما رجاه لنفسه. لقد كان قلبه يخفق بشده حتى خيّل له أن ماكنزي يسمع نبضه و تجمع الدم في عروق وجهه حتى بدى له أن قلبه لا يخفق الدم إلا فيه. تقدم ماكنزي المسير إلى مكتبه يتبعه خالد بخطوات ثقال. كان خالد مدركا لحجم المصيبة الواقع فيها فلا يخفى على طالب في جامعة واشنطن تشدد الجامعة في حوادث الغش حتى بدى إختفاء عدد من الطلبه بعيد الإختبارات أمرا معتادً ألفه الجميع. لم يكن تعديله من إجابته لسؤال الإختبار الرئيسي في ورقة الإختبار النصفي التي سلمها ماكنزي لطلبته كي يتظلم من رأى لنفسه ظلما في التصحيح بأمر إعتباطي فهو يعلم -عن واقع تجربه- أن تسليم أوراق الإختبارات للطلبة ما هو إلا ذر بالرماد على العيون.

 

فكل الأساتذة إلا ما ندر لا يُعوضون الطلبة المتظلمين بالدرجات مهما بلغت حجتهم من قوة. آثر خالد لنفسه الطريق السريع إن لم تكن الوحيدة لنيل الدرجة التي يستحقها. و لم يجرؤ عليها إلا من بعد أن تجثم الضيم صدره حتى استحال التنفس معه. حلي للسؤال واضح و تسلسل الخطوات منطقي! عجبي! فقط لأني وضعت الرقم النهائي بصفر منقوص تُلغى درجة السؤال بالكامل؟ أي ظلم هذا؟ كيف يتسنى له أن يبعثر جهدي عبثا كأنني لم أذاكر الوحدة بالكامل. لقد أمضيت اليوم كله متسمراً تحت سقوف المكتبة أذاكر مادته المشؤومة. لم يكتم هذه الأسئلة الغاضبة في نفسه فقد أعادها على مسامع زميله محمد علّه يلقى منه تشجيعا يوافقه في أخلاقية عمله و صحة منطقه. لم ينصحه محمد بالتحدث للأستاذ شخصيا فهو حاله كحال كل طلبة الجامعة يعلم إستحاله هذا الأمر.


- لا تذهب لماكنزي. لا أحتاج لتذكيرك بعدم جدوى الحديث معه خاصة في أمر يخص الدرجات فهو من بد الأساتذة يتلذذ حينما يرى طالبا بين يديه يترجاه إعادة تصحيح إختبار. إنه إنسان مريض. لكن صدقني سوف يتلذذ أكثر إذا علم أنك عدلت في الورقة. سيطردك بلا محالة غير آسف عليك.


:تجهم وجه خالد فتقطب الحاجبان و ترسم السخط على الملامح ثم أجاب
- علام الخوف؟ لقد كابدت نفسي البلاء في الجامعة حتى غشى النظر من عيني و سقط الشعر عن رأسي و أنّى له يرى الصفر الزائد! ما هو إلا رقم و كثير من الطلبة قد أُخطئَ بحقهم بسبب مشابه! دعني و شأني. مالي و مال تشاؤمك.


خرج ماكنزي و من خلفه خالد باب الفصل إلى ردهة المبنى المؤدية للباب الخارجي. كان يرى خالد الوجوه و يتأملها كأنه يراها لأول مرة. نسي كل ما آلف مع هذه الوجوه من أيام ماتعة و ليالي آنيسة. شعر بالوحدة و كأنه لا يعرفهم. لربما كرههم لحظة سيره في الردهة لكنه في قرارة نفسه و أعماق قلبه يعرف أنه لم يكره فيهم حينها إلا عدم شعورهم بما يأسيه من الألم و الخوف. ألا يرونني؟ ألا ابدو لهم كنعجة ساذجة تلحق بذابحها حيث يسلخها؟


فتح ماكنزي الباب و دعى خالد للدخول:
- اقفل الباب من ورائك لو سمحت.
- أنت تعلم لما دعوتك لمكتبي الشخصي، لذلك أرى أنه ليس هنالك من داعٍ لخوض تفاصيل ما بدر منك في ورقة الإمتحان. جامعة واشنطن تعفيك عن الدراسة. حظ موفق.


توقف الجفن عن الرمش و حدجت العين أسارير وجه ماكنزي الممتلئة. حظ موفق؟ أي حظ هذا يا نذير الشؤم. لكم أراد حينها أن يلكمه على خده حتى يكسر فكه و تسقط أسنانه من عليه. لكم أراد أن يطعن قبضة يده وسط صدره حتى تتوقف أنفاسه و يفيض الدم عن اللثم. لم تعفُ ملامح ماكنزي الناعمة و لا عيناه الناعستان و لا حتى شعره الأشقر المنكب على وجهه من إثارة غيض خالد. لقد استفز خالد حتى استحال دمه نار تلظى بين العروق. و لكن كعهده في حجرة الفصل، خيبت هيئته ما رجاه لنفسه. خارت قواه حتى بدى له أن قدماه لن تحملاه و ألتهبت أنفاسه حتى كاد يحترق جوفه. لم ينبس بكلمة ضاربا الباب من خلفه و خرج فور ضمور صدمته امتدت لثوان كانت أمر عليه و أطول مدة من سنين غربته التي أمتدت لأكثر من أربع سنوات. هبطت الطائرة بسلام.
 

قسم التحرير

محتوى هذه المقالة لا تمثل رأي صفحة سعوديون في أمريكا او فريق عملها وانما تمثل رأي كاتبها

- Twitter - Facebook
قسم التحرير

موعد نزول الرواتب

تم ايداع المخصصات

تسجيل الدخول